25 عاماً على نظام روما الأساسي: هل فات الأوان لتفي المحكمة الجنائية الدولية بوعدها للضحايا في ليبيا؟

17/7/2023

بعد خمسة وعشرين عاماً على اعتماد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (المحكمة)، تواجه المحكمة اليوم خطر إهمال حقوق ضحايا الجرائم التي كُلّفت بالتحقيق فيها وملاحقتها جنائياً، وهي جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم المرتكبة ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب. وما من مثالٍ أكثر وضوحاً على ذلك من الحالة في ليبيا، حيث لم تأخذ العدالة مجراها بعد، وحقوق الضحايا تُهمل وتُغفل رغم مرور إثني عشر عاماً على مباشرة المحكمة بتحقيقاتها. 

في 17 يوليو 1998، أُقرّ نظام روما الأساسي  وكان بمثابة وثيقة سابقة من نوعها، ليس فقط كمعلمٍ للعدالة الجنائية الدولية، بل أيضاً في تعامله مع الضحايا كأصحاب حق. ذلك النظام الأساسي للمحكمة ينصّ على إطار عمل مبتكر يكفل إحقاق حقوق الضحايا، وبخاصة حقهم في أن يتمّ إعلامهم بعمل المحكمة وحقهم في المشاركة في الإجراءات ذات الصلة، ليس فقط كشهود بل كأصحاب مصلحة مستقلّين يعبّرون عن شواغلهم ووجهات نظرهم، إضافةً إلى حقهم في الحماية الجسدية والنفسية (مثلاً، المواد 68، 15 و19). كما أولى نظام روما الأساسي أيضاً أهميةً للحق في جبر الضرر، بما في ذلك التعويض (المادة 75)، لتأتي القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات بدورها فتترجم ذلك في عمليات ملموسة تشرك الضحايا في الإجراءات بشكلٍ فعلي. 

وباعتمادها للنظام الأساسي، أوضحت الدول أنّ العدالة لا تكمن فقط في معاقبة الجناة والتمسّك بسيادة القانون بعباراتٍ مجرّدة، بل يجب أن تسعى العدالة أيضاً، وبقدر المستطاع، إلى إصلاح الضرر الذي لحق بالضحايا، نتيجة الانتهاكات. 

ولكن، يبدو اليوم أنّ المحكمة، حالها حال الدول التي تموّل أعمالها، قد تخلّت عن هذا المبدأ. فبالرغم من مطالبة ممثلي الدول بإحقاق العدالة للضحايا وشرح معاناتهم في الخطابات والإحاطات، يبقى التركيز الحالي للمحكمة يتمحور حول المساءلة ومكافحة الإفلات من العقاب ممّا يضرّ بالضحايا الذين يبدو أنّهم مستبعدين بشكلٍ كبيرٍ عن العملية. 

وتقدّم الحالة في ليبيا مثالاً واضحاً على كون نهج المحكمة يركّز بشكلٍ حصريّ تقريباً على التحقيقات وليس على حقوق الضحايا، مع التعامل معهم كشهود محتملين لا أكثر، وليس كأصحاب حق ينبغي إبلاغهم وإشراكهم كأصحاب مصلحة في عملية تحقيق العدالة، إذ لا تتوفّر أمام هؤلاء الضحايا سوى إمكانات وفرص تواصل محدودة للإدلاء بوجهات نظرهم خارج إطار الأدلة. علاوةً على ذلك، فإنّ مشاركة المحكمة مع المجتمع المدني الليبي، الذي يعدّ الأقرب إلى الضحايا والجماعات المتضرّرة، كانت بدورها مشاركةً دنيا ومتقطّعة، تتجاهل تماماً كمّ المعلومات التي يمكن أن يدلي بها المجتمع المدني عند إشراكه بشكلٍ فعّال. 

وقد بيّنت أبحاثنا كيف أنّ عدم المشاركة يقوّض بشكلٍ كبير من شرعية المحكمة وموثوقيتها في مختلف أنحاء ليبيا. وبالنسبة إلى الضحايا الذين عانوا ولم تتوقف معاناتهم إثر الجرائم ضدّ الإنسانية المرتكبة ضدّهم، كما هي حال المهاجرين واللاجئين العالقين في ليبيا، فإنّ الطريق إلى العدالة والمساءلة تبقى بعيدة المنال، لا سيما عندما لا تتوفّر معلومات دقيقة وواضحة حول التحقيقات الفعلية التي تقودها المحكمة في هذه الجرائم. وبالرغم من كثرة الوثائق المتوفرة حول الانتهاكات بحق المهاجرين واللاجئين، فإنّ المحكمة لا تشركهم في أعمالها. 

ويرى المسؤولون في المحكمة، من جهتهم، أنّ غياب مشاركة الضحايا والتواصل معهم يعدّ نتيجةً حتميةً للقيود على الموارد ما دفع بهم إلى أداء مهامهم بطريقةٍ لا تكون فيها حقوق الضحايا ذات صلة إلا عندما تكون الدعاوى القضائية جاريةً، وبعد ضمان اعتقال المشتبه به. وبالتالي، فإنّ استبعاد الضحايا في مراحل مبكرة من عمل المحكمة بات أمراً عادياً، ممّا جعل المحكمة بعيدة المنال وغير ذات صلة بالنسبة إلى الضحايا. نتيجةً لذلك، فإنّ حقوق الضحايا في ليبيا باتت ثانويةً، لا بل تعقيداً غير عملي وعبئاً مالياً، وبالتالي، تكاد العدالة أمام المحكمة الجنائية الدولية ترتبط فقط بالنتيجة وليس الإجراءات. ولا يمتّ هذا الواقع بأيّ صلة للرؤيا التي كرّسها نظام روما الأساسي قبل 25 عاماً خلت. 

لقد آن الأوان لتغيير المسار بشكلٍ طارئ. 

بالنسبة إلى ليبيا، يقتضي تغيير المسار تمويلاً إضافياً من جانب الدول الأعضاء للأنشطة التي تُعمل حقوق الضحايا، من قبيل ضمان إبقاء الضحايا والجماعات المتضرّرة على اطلاع، ووصولهم إلى قنواتٍ تتيح لهم التعبير عن وجهات نظرهم، وتمكينهم من المشاركة المجدية في الإجراءات. كما يجب أن تكون المعلومات متوفرةً لهم باللغة العربية وباللغات الأخرى ذات الصلة من خلال قنواتٍ متاحةً وأن تكون متكيّفةً مع احتياجات الضحايا والجماعات المتضرّرة ومخاوفهم. كما من المطلوب أيضاً تنسيق أفضل وتبادل فعّال بين مختلف أجهزة المحكمة، مثل قسم التوعية والتواصل، وقسم مشاركة المجني عليهم وجبر أضرارهم، مع مكتب المدعي العام من أجل تطوير وتنفيذ استراتيجية استباقية تضمن حقوق الضحايا. ولا شكّ أنّ هذا الأمر يستدعي تفاهماً متبادلاً حول أهمية إشراك الضحايا في أبكر وقتٍ ممكن. 

كما وتحتاج المحكمة أيضاً لأن تشرك منظمات المجتمع المدني الليبية عن طريق فتح قنوات مستمرّة للتواصل تكون متكيّفةً مع واقع المنظمات في كلّ حالة، واعتماد تدابير حماية مناسبة لمنظمات المجتمع المدني التي تواجه الترهيب، وتخضع للهجمات والأعمال الانتقامية بسبب عملها في مجال التوثيق والتعاون مع المحكمة. 

وبالرغم من كلّ مواطن الضعف، تبقى الحالة في ليبيا تشهد على الأهمية المستمرّة للمحكمة الجنائية الدولية، ولا شكّ أنّ إصدار أربعة أوامر قبض جديدة خاصة بليبيا هذه السنة يمثّل فرصةً لا تعوّض للقيام بالأمور على نحوٍ مختلف. 

وفي وقتٍ جاءت فيه آليات التحقيق الدولية الأخرى ورحلت، مثل البعثة الدولية المستقلة لتقصّي الحقائق في ليبيا التي انتهت ولايتها من دون تجديد من قبل مجلس حقوق الإنسان ومن دون هيئة متابعة مستقلة للمضيّ باستنتاجاتها، ما زالت الفظائع ترتكب في البلاد في ظلّ إفلات تامّ من العقاب، وما زال نظام العدالة المحلّي غير قادر وغير مستعدّ لتحقيق المساءلة. وبالتالي، تبقى المحكمة الجنائية الدولية هي الآلية الوحيدة للتحقيق في الجرائم الدولية الخطيرة المرتكبة في ليبيا، وهذه بحدّ ذاتها مسؤولية لا يجوز الاستخفاف بها. 

فقد حان الوقت للوفاء بالوعد الذي قطعه نظام روما الأساسي للضحايا، ولا بدّ من أن يكون لهم دور في صلب أعمال المحكمة، في ليبيا وفي أيّ حالةٍ أخرى. 

Thank you! You have been subscribed.
Oops! Something went wrong while submitting the form.

سجل للحصول على المستجدات

تحديث منتظم من محامون من أجل العدالة الى بريدك